مستويات و مراتب الامامة
احمد سعيد
للامامة مستويات ومراتب تبعاً للمسؤولية الواقعية في حركة الامام والرسالة والمجتمع، وتبعاً لظروف بسط اليد والقدرة على تنفيذ المسؤولية عملياً، وعلي ذلك فلها مستويان او مرتبتان:
المرتبة الاول: تعني النيابة والخلافة المباشرة من الله تعالى عن طريق انسان معين كالنبي والاوصياء ، حيث يقوم الامام بدور الحجة على الناس جميعاً في كل زمان ومكان، ومهمته ربط الناس جميعاً بالله تعالى فكريا وعاطفياً وسلوكياً، فيكون دوره دور القدوة ، ودور الائتمام به في قوله وفعله ، وهذه المرتبة ممتدة عبر الازمان الى يوم القيامة.
المرتبة الثانية: تعني ادارة الشؤون العملية في الواقع، كتبطيق الشريعة واقامة العدل والحكم بين الناس ، وادارة الاقتصاد والاجتماع وغير ذلك ، وبمعنى آخر قيادة الدولة والاشراف على حركتها.
والمرتبة الاولى من مراتب الامامة لا تتخلّف عن الامام مهما كانت الظروف والاحوال ، سواء استجابت له الأمة أم لم تستجب، او بايعته الأمة ام لم تبايعه، او بسطت له اليد ام لم تبسط ، فالامامة باقية، ويبقى من يمثلها حجة وقدوة وحلقة الوصل بين الله تعالى والناس ، فيجب الاقتداء به وطاعته وتنفيذ اوامره والانتهاء عن نواهية، ويبقى دوره محفوظاً كما نصَّبه رسول الله(ص) عن الله تعالى.
والمرتبة الثانية فانها قد تتخلّف عن الامام بعصيان الأمة وعدم بسط اليد له للاشراف على قيادة وادارة الدولة، وهذه المرتبة هي التي تسلب من الامام وتغتصب منه، وهي التي حدثت في الواقع بعد اقصاء ائمة أهل البيت(ع) عن مواقعهم في ادارة وقيادة الدولة.
وفي توضيح ذلك نستشهد باقوال امير المؤمنين (ع) في خصوص هذا الاقصاء.
في رسالته الى اخيه عقيل قال(ع): (فدع عنك قريشاً ... فقد قطعوا رحمي ، وسلبوني سلطان ابن أمي)(1)
فالذي سلب هو المرتبة الثانية وهي السلطنة في تعبير الامام(ع) ، فهو ليس سلطاناً فعلياً وانما هو امام سلبت منه السلطة ، فالامامة له لا للذي سلب السلطة، فالذي سلب السلطة لا يسمى إماماً وان سمّاه البعض.
وقال(ع): ( والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ولا في الولاية إربة، ولكنكم دعوتموني اليها، وحملتموني عليها) (2).
والولاية هنا تعني الإمرة وادارة الأمور، فالامام(ع) يصرح بإنه ليس لديه هذه الرغبة في ادارة الامور بعد 25 عاماً من الاخطاء التي ارتكبت من قبل السابقين له، والذين اغتصبوا الخلافة والسلطنة خلافاً للنصوص او خلافاً لقواعد الشوري المتبعة عند المجتمعات لو تنزلنا وقلنا بالشورى.
سأل الامام علي(ع) عبد الله بن عباس: ما قيمة هذا النعل؟
فقال: لا قيمة لها.
فقال(ع):(والله لهي أحب الي من إمرتكم، إلا أن اقيم حقاً أو أدفع باطلاً)(3).
فالإمام (ع) يتحدث عن الإمرة والسلطنة لا عن الإمامة، لان الإمامة منصب مقدس في مرتبتها الأولى ، وهي ليست رغبة بل مسؤولية من الله تعالى.
وقال(ع):(اللهم انك تعلم أني لم ارد الامرة، ولا علو الملك والرياسة ، وانما أردت القيام بحدودك،والأداء لشرعك) (4).
فهو (ع) يبين عدم رغبته في المرتبة الثانية من مراتب الإمامة، وهي المرتبة التي سلبت منه.
وفي قول اخر ورد عنه(ع) : ( وقد علم الله سبحانه أني كنت كارهاً للحكومة بين أمة محمد(ص) ولقد سمعته يقول: ( مامن والٍ يلي شيئا من أمر أمتي إلا أُُتي به يوم القيامة مغلولة يداه الى عنقه على رؤوس الخلائق، ثم ينشر كتابه، فان كان عادلاً نجا، وان كان جائراً هوى ،حتى اجتمع عليًّ ملؤكم...) (5).
وعلى ضوء ما تقدم يمكن القول: إن جميع المعاني المتقدمة كالإمرة والحكومة والرئاسة والسلطنة ليست مرادفة ومساوقة لمعنى الإمامة ، وانما هي مستوى من مستوياتها ومرتبة من مراتبها ، وكذلك في مصطلح الامير والحاكم والرئيس والسلطان فانها غير مرادفة لمعنى الإمام، وإلاّ لما أمكن سلبها عنه ، ويمكن القول: إن العلاقة بينها علاقة العموم والخصوص المطلق، فالإمام هو الأمير والحاكم والرئيس والسلطان ، وليس العكس صحيحاً.
وعلى اساس المرتبة الأولى من مراتب الإمامة يمكن أن نضع قواعد عقائدية أو ثوابت فكرية وهي:
1- الامام منصب من الله تعالى ومن رسوله(ص).
2- دور الحجة والقدوة لا يتحقق إلا في المعصوم(ع).
3- دور الرابط بين الله تعالى والناس لا يتحقق إلا في المعصوم.
4- بسط اليد وعدمه لا يؤثر على منصب الإمام.
5- لا دخل لبيعة الأمة في اثبات الامامة.
6- لا يجوز أن يطلق على من اغتصبوا الخلافة أئمة لأنهم يسوا قدوة وحجة.
.
حديث الاثني عشر خليفة
ورد هذا الحديث بصياغات مختلفة متقاربة نصّت على أنّ عدد الخلفاء بعد النبي اثنا عشر خليفة.
فقد أخرج مسلم في «صحيحه» في كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش بسنده عن حصين عن جابر بن سمرة قال: «دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة، قال: ثم تكلّم بكلام خفي عليّ، قال: فقلت لأبي ما قال؟ قال: كلّهم من قريش»(2).
____________
(1) صحيح شرح العقيدة الطحاوية: 178، دار الإمام النووي، الأردن.
وأخرج بسنده إلى عامر بن سعد بن أبي وقاص، قال: كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع أن أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فكتب إلي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة عشية رجم الأسلمي يقول: لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش»(1).
(2) صحيح مسلم: 6/3، دار الفكر.
وأخرج البخاري في «صحيحه» في كتاب الأحكام بسنده عن جابر بن سمرة، قال: يكون اثنا عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنّه قال: كلهم من قريش»(2).
وأخرج أحمد في «مسنده» عن مسروق قال: «كنّا جلوساً عند عبد الله بن مسعود وهو يُقرئنا القرآن فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وسلّم كم تملك هذه الأمة من خليفة فقال عبد الله بن مسعود ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك ثم قال: نعم ولقد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل»(3).
وأخرجه أبو يعلى في «مسنده»(4) والطبراني في «الكبير»(5).
قال أحمد محمد شاكر: «إسناده صحيح»(6).
____________
(1) المصدر نفسه: 6/4، دار الفكر.
والحديث أورده السيوطي وحسّنه في «تاريخ الخلفاء»(1).
(2) صحيح البخاري: 8/127، دار الفكر.
(3) مسند أحمد: 1/398، 406، دار صادر.
(4) مسند أبي يعلى: (8/444) و(9/222)، دار المأمون للتراث.
(5) المعجم الكبير: 10/158، مكتبة ابن تيمية، القاهرة.
(6) مسند أحمد بتحقيق أحمد محمد شاكر: 4/28، 62، حديث (3781) و(3859)، دار الحديث، القاهرة.
وحديث الاثني عشر خرّجه كبار أئمة الحديث وامتلأت الكتب بذكره ولا نرى حاجة لذكر مصادره بعد وجوده في البخاري ومسلم، إذ لا كلام ولا نقاش في صحته، بل يمكن القول أنه من المجمع على صحته لأنه في صحيح مسلم وقد صرّح بأنه لم يخرج في كتابه إلا ما أجمعوا عليه.
قال السيوطي في «تدريب الراوي»: «... وقال مسلم ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ما أجمعوا عليه»(2).
فالحديث مجمع عليه، ودلالته على أن خلفاء النبي اثنا عشر خليفة جلية ظاهرة للعيان، وهذا العدد كما هو واضح ينطبق على ما تذهب إليه الشيعة الإمامية الاثنا عشرية، من وجود الاثني عشر إماماً من أهل البيت، أولهم علي وآخرهم المهدي.
أما أهل السنّة فبقوا في حيرة من أمر هذا الحديث ولم يجدوا له مخرجاً؛ لأنهم إنْ قالوا هم الخلفاء الأربعة نقص عددهم، وإن أدخلوا فيهم الخلفاء الأمويين أو العباسيين زاد عددهم، لذا راحوا ينتقون انتقاء حسب أهوائهم وكأنّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ترك هذا الأمر المهم الخطير في مهبّ الريح.
ومن الغريب أنّ بعضهم أدخل ضمن انتقائه معاوية بن أبي سفيان وولده يزيد بن معاوية(3) مع أنّ معاوية خرج على خليفة زمانه علي بن أبي
____________
(1) تاريخ الخلفاء: 17، دار المعرفة، بيروت.
طالب (عليه السلام) وقاتله في صفين وقُتل في هذه المعركة الصحابي الجليل عمّار بن ياسر فيكون معاوية مصداقاً لأمرين:
(2) تدريب الراوي: 1 / 98، مكتبة الرياض الحديثة.
(3) وهو الحافظ ابن حجر العسقلاني في «فتح الباري»: 13 / 184، دار المعرفة. وانظر «تاريخ الخلفاء» للسيوطي: 15، دار الكتاب العربي.
أولاً: لقول النبي لعلي (عليه السلام): «لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق» فالمبغض لعلي منافق فما بالك بمن قاتله(1).
وثانياً: لقول النبي (صلى الله عليه وآله) بأن عماراً تقتله الفئة الباغية فقد أخرج البخاري في «صحيحه» عن أبي سعيد قال: «كنّا ننقل لبن المسجد لبنة لبنة وكان عمار ينقل لبنتين لبنتين فمرّ به النبي صلى الله عليه وسلم ومسح عن رأسه الغبار وقال ويح عمار تقتله الفئة الباغية، عمّار يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النار»(2).
وأخرج مسلم عن أمّ سلمة: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لعمار «تقتلك الفئة الباغية»(3).
قال المنّاوي في «فيض القدير»: «(فائدة) قال ابن حجر: «حديث تقتل عماراً الفئة الباغية، رواه جمع من الصحابة منهم قتادة وأمّ سلمة وأبو هريرة وابن عمر وعثمان وحذيفة وأبو أيوب وأبو رافع وخزيمة بن ثابت ومعاوية وعمرو بن العاص وأميّة وأبو اليسر، وغالب طرقه كلّها صحيحة أو حسنة وفيه علمٌ من أعلام النبوة وفضيلة ظاهرة لعلي وعمار ورَدّ على النواصب الزاعمين أنّ علياً لم يكن مصيباً في حروبه»(4).
____________
(1) تقدم الحديث في آخر البحث عن آية التطهير وهو موجود في صحيح مسلم وستأتي الإشارة إليه منفرداً إن شاء الله.
فهل يكون معاوية بعد هذا إماماً عادلاً، وخليفة لرسول الله على الأمة الإسلامية؟!!(1).
(2) صحيح البخاري: 3 / 207، كتاب الجهاد والسير، دار الفكر.
(3) صحيح مسلم: 8 / 186، كتاب الفتن وأشراط الساعة، دار الفكر.
(4) فيض القدير شرح الجامع الصغير: 4 / 613، دار الكتب العلمية.
وأما يزيد بن معاوية فهو غني عن التعريف وأطبقت كتب التاريخ والسير على قبح وشناعة أفعاله فهو الذي قتل الحسين بن علي (عليه السلام) سيد شباب أهل الجنة وهو الذي استباح المدينة المنورة وهتك الأعراض والنواميس وهو الذي تجاسر على البيت الطاهر فضرب الكعبة بالمنجنيق(2)، فهل بعد هذا يكون خليفة رسول الله وإماماً من أئمة المسلمين؟!!.
و هذا التخبط في تشخيص الخلفاء هو نتيجة الابتعاد عن وصايا وتوجيهات النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) فإن السنة النبوية يُفسِّر بعضها بعضاً فحيث أن الرسول (صلى الله عليه وآله) أوصى بالتمسك بأهل البيت في حديث الثقلين عُلِم من ذلك أن
____________
(1) تنبيه: صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «قاتل عمار وسالبه في النار».
خلفاءه الاثني عشر هم من أهل بيته الطاهرين، وبذا يتضح الحال ويتبين المقصود، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أنْ هدانا الله.
أخرج الحاكم وصحّحه، ووافقه الذهبي، «المستدرك على الصحيحين» وبهامشه «تلخيص المستدرك» للذهبي: 3 / 387، دار المعرفة.
وأورده الهيثمي عن أحمد وقال: «ورجال أحمد ثقات»، انظر «مجمع الزوائد»: 7 / 244، كتاب الفتن، باب فيما كان بينهم يوم صفين، دار الكتب العلمية.
و معلوم أن الذي قتل الصحابي الجليل عمار بن ياسر في معركة صفين، هو صحابي آخر كان ضمن صفوف جيش معاوية يدعى أبو الغادية الجهني، «تعجيل المنفعة» لابن حجر العسقلاني: 509، دار الكتاب العربي.
فهذا الصحابي في النار بنصّ قول النبي فهل يمكن بعد هذا القول بأنّ كلّ الصحابة عدول؟ فهل يتصوّر أنّ من يكون في النار عادلاً وصحابياً جليلاً يجب احترامه؟!!
(2) انظر على سبيل المثال ترجمة يزيد في «تاريخ الخلفاة» للسيوطي: 182 ـ 186، دار المعرفة.
من كتاب أئمة اهل البيت في كتب اهل السنه